الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.قَاعِدَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ وَثُبُوتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَثُبُوتَ الْخَاصِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَامِّ وَلَا يَدُلُّ نَفْيُهُ عَلَى نَفْيِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ تُوجِبُ الِالْتِذَاذَ بِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ نَفْيُ الْعَامِّ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ وَإِثْبَاتُ الْخَاصِّ أَحْسَنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْعَامِّ.فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ: (بِضَوْئِهِمْ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (أَضَاءَتْ) لِأَنَّ النُّورَ أَعَمُّ مِنَ الضَّوْءِ إِذْ يُقَالُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الضَّوْءُ عَلَى النُّورِ الْكَثِيرِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشمس ضياء والقمر نورا} فَفِي الضَّوْءِ دَلَالَةٌ عَلَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النُّورِ وَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الضَّوْءِ لِاسْتِلْزَامِ عَدَمِ الْعَامِّ عَدَمَ الْخَاصِّ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْغَرَضُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا أَلَا تَرَى ذِكْرَهُ بَعْدَهُ. {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}.وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بنورهم} وَلَمْ يَقُلْ: (أَذْهَبَ نُورَهُمْ) لِأَنَّ الْإِذْهَابَ بِالشَّيْءِ إِشْعَارٌ لَهُ بِمَنْعِ عَوْدَتِهِ بِخِلَافِ الذَّهَابِ إِذْ يُفْهَمُ مِنَ الْكَثِيرِ اسْتِصْحَابُهُ فِي الذَّهَابِ وَمُقْتَضَى منعه من الرجوع ومنه قوله تعالى: {يا قوم ليس بي ضلالة} وَلَمْ يَقُلْ: (ضَلَالٌ) كَمَا قَالُوا: {إنا لنراك في ضلال} لِأَنَّ نَفْيَ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْجِنْسِ الْبَتَّةَ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الضَّلَالَةَ أَخَصُّ مِنَ الضَّلَالِ فَكَانَ أَبْلَغَ فِي نَفْيِ الضَّلَالِ عَنْهُ، فكأنه قال: ليس به شَيْءٌ مِنَ الضَّلَالِ كَمَا لَوْ قِيلَ: (لَكَ) لك تمرة فَقُلْتَ: مَا لِي تَمْرَةٌ.وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ وَقَالَ: تَعْلِيلُهُ نَفْيَهَا أَبْلَغُ (مِنْ نَفْيِ الضَّلَالِ) لِأَنَّهَا أَخَصُّ (مِنْهُ) وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّ نَفْيَ الْأَعَمِّ أَخَصُّ مَنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ وَنَفْيَ الْأَخَصِّ أَعَمُّ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَإِذَا قُلْتَ هَذَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَلْزَمْ سَلْبُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَنْهُ وَإِذَا قُلْتَ هَذَا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ الضَّلَالَةُ أَدْنَى من الضلال وأقل لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة مِنْهُ وَالضَّلَالُ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَنَفْيُ الْأَدْنَى أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَصَّ بَلْ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض}، وَلَمْ يَقُلْ (طُولُهَا) لِأَنَّ الْعَرْضَ أَخَصُّ إِذْ كُلُّ مَا لَهُ عَرْضٌ فَلَهُ طُولٌ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَأَيْضًا إِذَا كَانَ لِلشَّيْءِ صِفَةٌ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ صِفَةٍ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا لِأَنَّ ذِكْرَهَا كَالتَّكْرَارِ وَهُوَ مُمِلٌّ وَإِذَا ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى لَا تَكُونَ الْمُؤَخَّرَةُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا.وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ آخَرُ كَمَا فِي قوله: {وكان رسولا نبيا} لِأَجْلِ السَّجْعِ وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ شَيْءٍ أَوْ نَفْيُهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ آخَرَ أَوْ نَفْيِهِ كَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّالِّ.وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها} وَعَلَى قِيَاسِ مَا قُلْنَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَإِنْ ذُكِرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا فَلْتُذْكَرْ أَوَّلًا.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تنهرهما} وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ يَكْفِي (لَهُمَا أُفٍّ) أَوْ يَقُولُ (وَلَا تَنْهَرْهُمَا) (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ وَالْعِنَايَةِ بِالنَّهْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْمَفْهُومِ وَأُخْرَى بِالْمَنْطُوقِ.وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} فإن النوم غشية ثقيلة تقع على القلب تَمْنَعُهُ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَالسِّنَةُ مِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ النُّعَاسِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دُونَ ذِكْرِ النَّوْمِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السِّنَةَ إِنَّمَا لَمْ تَأْخُذْهُ لِضَعْفِهَا وَيُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّوْمَ قَدْ يَأْخُذُهُ لِقُوَّتِهِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ التَّوَهُّمَيْنِ أَوِ السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ والنوم في القلب تلخيصه وهو مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَتِّرَاتِ ثُمَّ أَكَّدَ نَفْيَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِمَا فِيهِمَا وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا تَقَعُ فِيمَا فِيهِمَا وَمَنْ يَكُنْ لَهُ مَا فِيهِمَا فَمُحَالٌ نَوْمُهُ وَمُشَارَكَتُهُ إِذْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَفَسَدَتَا بِمَا فِيهِمَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلزم من نفي النسة نَفْيُ النَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَنَامُ وإنما قال: {لا تأخذه}.يَعْنِي لَا تَغْلِبُهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَا يَغْلِبُهُ الْقَلِيلُ وَلَا الْكَثِيرُ مِنَ النَّوْمِ وَالْأَخْذُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ مَأْخُوذًا وَأَخِيذًا وَزِيدَتْ (لَا) فِي قَوْلِهِ: {وَلَا نَوْمٌ} لِنَفْيِهِمَا عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَوْلَاهَا لَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَإِذَا ذُكِرَتْ صِفَاتٌ فَإِنْ كَانَتْ لِلْمَدْحِ فَالْأَوْلَى الِانْتِقَالُ فِيهَا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى لِيَكُونَ الْمَدْحُ مُتَزَايِدًا بِتَزَايُدِ الْكَلَامِ فيقولون: فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض وَلَا يَعْكِسُونَ هَذَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ الْأَبْلَغُ لَكَانَ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى وَلَا يُوصَفُ بِالْعَالِمِ بَعْدَ الْوَصْفِ بِالْعَلَّامِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُدَبَاءُ فِي الْوَصْفِ بِالْفَاضِلِ وَالْكَامِلِ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:ثَالِثُهُمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ قَالَ الْأُقْلِيشِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّكَ مَهْمَا نَظَرْتَ إِلَى شَخْصٍ فَوَجَدْتَهُ مَعَ شَرَفِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا مُعْتَدِلَ الْأَفْعَالِ وَصَفْتَهُ بِالْكَمَالِ وَإِنْ وَجَدْتَهُ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الرُّتَبِ بِالْكَسْبِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَإِمَاطَةِ الرَّذَائِلِ وَصَفْتَهُ بِالْفَضْلِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِهِمَا إِلَّا بِتَجَوُّزٍ.وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إِنَّمَا قُدِّمَ الْغَيْبُ مَعَ أَنَّ عِلْمَ الْمُغَيَّبَاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ وَالتَّمَدُّحَ بِهِ أَعْظَمُ وَعِلْمُ الْبَيَانِ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأَمْدَحِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْغَائِبِ عَنَّا وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِكَثْرَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ فَكَانَ تَأْخِيرُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى.وَقَوْلُ الشَّيْخِ: إِنَّ الْمُشَاهَدَاتِ لَهُ أَكْثَرُ فِيهِ نَظَرٌ بل في غيبه ما لايحصى: {ويخلق ما لا تعلمون}، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الِانْتِقَالَ لِلْأَمْدَحِ تَرَقٍّ فَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ فِي عِلْمِهِ سَوَاءٌ فَنَزَلَ التَّرَقِّي فِي اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ تَرَقٍّ فِي الْمَعْنَى لِإِفَادَةِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جهر به} فَصَرَّحَ بِالِاسْتِوَاءِ.هَذَا كُلُّهُ فِي الصِّفَاتِ وَأَمَّا الْمَوْصُوفَاتُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَتَقُولُ: قَامَ الْأَمِيرُ وَنَائِبُهُ وَكَاتِبُهُ قَالَ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} الْآيَةَ. فَقَدَّمَ الْخَيْلَ لِأَنَّهَا أَحْمَدُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْبِغَالِ وَقَدَّمَ الْبِغَالَ عَلَى الْحَمِيرِ لِذَلِكَ أَيْضًا.فَإِنْ قُلْتَ: قَاعِدَةُ الصِّفَاتِ مَنْقُوضَةٌ بِالْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ.وَقَالَ الشَّاعِرُ:قُلْتُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ) فِيمَا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَقْصُودَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ وَأَمَّا تَأَخُّرُ الْأَمْدَحِ فِي الصِّفَاتِ فَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتَا صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَوْ أَخَّرْنَا الْأَمْدَحَ لَكَانَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ نَوْعًا مِنَ الْعَبَثِ.هَذَا كُلُّهُ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ فَإِنْ كَانَتْ لِلذَّمِّ فَقَدْ قَالُوا يَنْبَغِي الِابْتِدَاءُ بِالْأَشَدِّ ذَمًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ: فِي كِتَابِ (طَرِيقِ الْفَصَاحَةِ): وَهُوَ عِنْدِي مُشْكِلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْجِيهَهُ.وَقَالَ حَازِمٌ فِي (مِنْهَاجِهِ): يُبْدَأُ فِي الْحَسَنِ بِمَا ظُهُورُ الْحُسْنِ فِيهِ أَوْضَحُ وَمَا النَّفْسُ بِتَقْدِيمِهِ أَعْنَى وَيُبْدَأُ فِي الذَّمِّ بِمَا ظُهُورُ الْقُبْحِ فِيهِ أَوْضَحُ وَالنَّفْسُ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ أَعْنَى وَيُتَنَقَّلُ فِي الشَّيْءِ إِلَى مَا يَلِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَوِّرِ الذين يُصَوِّرُ أَوَّلًا مَا حَلَّ مِنْ رُسُومِ تَخْطِيطِ الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَدَقِّ فَالْأَدَقِّ. .فَائِدَةٌ: نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِامْتِنَاعِ أَوْ عَدَمُ إِمْكَانِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ نَحْوُ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكَلِّمَنِي؟ بِمَعْنَى هَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْفِعْلِ؟ وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الحواريين: {هل يستطيع ربك} عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ هَلْ يُجِيبُنَا إِلَيْهِ؟ أَوْ هَلْ يَفْعَلُ رَبُّكَ؟ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْإِنْزَالِ وَأَنَّ عِيسَى قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمُوا هَلْ هُنَا صَارِفٌ أو مانع؟.وقوله: {فلا يستطيعون توصية} {فلا يستطيعون ردها} {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ كَقَوْلِهِ تعالى: {لن تستطيع معي صبرا}..فَائِدَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} قَالُوا: الْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ لَا يُقَالُ لِلْأَسَدِ: لَيْسَ بِشُجَاعٍ.وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ هُنَا الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الكفار قالوا رد عَلَيْهِ السَّلْبُ هُنَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا أَوْ مَا رَمَيْتَ انْتِهَاءً إِذْ رَمَيْتَ ابْتِدَاءً وَمَا رَمَيْتَ مَجَازًا إِذْ رَمَيْتَ حَقِيقَةً.إِخْرَاجُ الْكَلَامِ مُخْرَجَ الشَّكِّ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِضَرْبٍ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَحَسْمِ الْعِنَادِ.كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} وهو يعلم أنه على لهدى وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالِ لَكِنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّكِّ تَقَاضِيًا وَمُسَامَحَةً وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ وَلَا ارْتِيَابَ.وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العابدين}.وَنَحْوِهِ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}. أَوْرَدَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أُمُورَ النَّاسِ وَتَأَمَّرْتُمْ عَلَيْهِمْ لِمَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمَشَاهِدِ وَلَاحَ مِنْكُمْ فِي الْمَخَايِلِ: {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرحامكم} تَهَالُكًا عَلَى الدُّنْيَا؟.وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ سَوْقِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ سِيَاقَ غَيْرِهِ لِيُؤَدِّيَهُمُ التَّأَمُّلُ فِي التَّوَقُّعِ عَمَّنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْهُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَصَمَّهُمُ اللَّهُ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فَيُلْزِمُهُمْ بِهِ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُفَاجِئَهُمْ بِهِ وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ تَفَادِيًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ.وَقَدْ يَخْرُجُ الْوَاجِبُ فِي صُورَةِ الْمُمْكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ ربك مقاما محمودا}.{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ من عنده}.و: {عسى ربكم أن يرحمكم}.{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.وَقَدْ يَخْرُجُ الْإِطْلَاقُ فِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ كَقَوْلِهِ: {حتى يلج الجمل في سم الخياط}.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يشاء الله ربنا} فَالْمَعْنَى لَا يَكُونُ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ عَلَّقَهُ بمشيئة الله لما كان معلوما أنه يَشَاؤُهُ إِذْ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكُلُّ أمر قد علق بما لايكون فَقَدْ نُفِيَ كَوْنُهُ عَلَى أَبْعَدِ الْوُجُوهِ.وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الكفار لا من شعيب والمعنى: لنخرجنك يا شعيب وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لنا أن نعود فيها} عَلَى كُلِّ حَالٍ.وَقِيلَ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقَرْيَةِ لَا إِلَى اللَّهِ..الْإِعْرَاضُ عَنْ صَرِيحِ الْحُكْمِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله}، أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ مِقْدَارِ الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ وَذَكَرَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَشَرِ تَفْخِيمًا لِمِقْدَارِ الْجَزَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْهَامِ الْمِقْدَارِ وَتَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانِهِ عَلَى حَدِّ (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ إِلَى إِعَادَةِ الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَا يَنَالُ وَتَفْخِيمًا لِبَيَانِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْعَمَلِ فَصَارَ السُّكُوتُ عَنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِهَا.وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أجر من أحسن عملا} وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ وَالْبَقَاءَ وَالْجَمْعَ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ رَجَعَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمُبْتَدَأَ الَّذِي هُوَ الَّذِينَ عَنْ ذِكْرِ خَبَرِهِ إِلَى الشُّرُوعِ فِي كَلَامٍ آخَرَ فَبَنَى مُبْتَدَأً عَلَى مُبْتَدَأٍ وجمع والمعنى قوله: {إنا لا نضيع} من خبر المبتدأ الأول وتقديره: إنا لانضيع أَجْرَهُمْ لِأَنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عملا.
|